*حلم صيفي في بركة سحرية*

كان العالمُ في تلكَ اللحظةِ الهادئة، على وشكِ أن يُغادرَ صخبَ اليقظةِ ويستسلمَ لحلمٍ صيفيٍّ وادع، كغفوةِ طفلٍ على صدرِ أمه. كانَ الهواءُ يهمسُ بأسرارٍ قديمة، والطبيعةُ تتنفسُ ببطءٍ ورضا. وعندَ بركةٍ… ليست كأيّ بركة، بل كأنها مرآةٌ لقلبِ السماء، تجلسُ سيدةٌ… تُرى من أيّ نورٍ نُسجت؟ ومن أيّ طهرٍ خُلقت؟ يدها الرقيقةُ تداعبُ وجهَ الماءِ الساكنِ في النافورة، فيرتعشُ الماءُ فرحاً بلمستها، وينثرُ حولها قطراتٍ كاللآلئ. تُمدُّ أصابعَها الناعمة، فإذا بالأغصانِ تستجيبُ لها، كأنها كائناتٌ حيّةٌ تفهمُ لغةَ القلب، وتنحني بحبٍّ ليَسقطَ في حِجرِها وردُ القدّاحِ محمّلاً بالعطر، كقبلاتٍ من عاشقٍ للطهر. وبحركةٍ من سحرٍ بسيطٍ لا يُشبهُ سحرَ الدّجالين، بل سحرَ الطبيعةِ الخفيّ، تقطفُ النجمةَ الأخيرةَ التي تأبى الرحيلَ عن أديمِ الفجر، وتغمسها في بركتها، فتُضيءُ البركةُ ببريقٍ سماويّ، كأنها تحتفظُ فيها بوميضِ الأحلامِ البعيدة. ثمّ وبخفةٍ ورشاقةٍ، تقصّ شريطاً أزرقَ من حافةِ الفجرِ الوليد، من ذلكَ الأزرقِ الذي يجمعُ بينَ زرقةِ الليلِ وزرقةِ النهار، وتضفرُ بهِ شَعرها المنسدلَ كشلالٍ من الليلِ على كتفيها، كأنها تجمعُ سكونَ الليلِ وحيويةَ النهارِ في ضفيرةٍ واحدة. ترشُّ من حولها رذاذاً… ليس عطراً أرضياً، بل نسماتٍ من عالمٍ آخر، عالمِ الصفاءِ والجمال. فتتفتّحُ في الروحِ أنوارٌ لم تكن لِتُرى، وتتجسّدُ مشاعرُ الوجدِ بلّوراتٍ شفافة، وتحملُني تلكَ القطراتُ الندّية، لا إلى مكانٍ بعيدٍ بالجسد، بل إلى فراديسَ في النفس، فردوسِ الطمأنينةِ والسلامِ الذي تَنشرهُ بوجودِها. آهِ كم كانت أوقاتي قبلاً… مجرّدَ قطعٍ من حطبٍ يُوشكُ على الاندثار، معلّقاً كقشّةٍ لا قيمةَ لها في منقارِ عصفورٍ أضناهُ العطشُ والتيه، يبحثُ عن مأوىً بسيطٍ وقَطرةِ ماءٍ تروي ظمأَهُ، في صحراءِ الأيامِ القاحلة. ولكنّ زمانَها… كانَ بستاناً يفيضُ بالخصبِ والحياة. تنفخُ في مزمارِها… ليس مزماراً من خشب، بل نغمٌ يخرجُ من أعماقِ الروح، نغمٌ ذهبيٌّ كأشعةِ الشمس. فتنسكبُ الموسيقى… لا كألحانٍ تُسمعُ بالأذن، بل كرحيقٍ عسليٍّ يسري في عروقِ الأرض، ويُحيي حقولَها المُتعبة. ويَشيعُ الهارمونيُ… ذلكَ الانسجامُ الكونيّ الذي نَشتاقُ إليه، ويَبدأُ الرقصُ… رقصُ الحياةِ في كلِّ ذرّة. ويولدُ الحلمُ الصيفيّ… لا كخيالٍ يزول، بل كحقيقةٍ جميلةٍ تتجسّد، ذلكَ السرُّ البهيّ الذي نراهُ في جمالِ الزهرةِ وفي لمعانِ النجمة. تهدهدُهُ تلكَ السيدةُ الوادعةُ عندَ البرْكةِ السحرية، تمنحهُ الحياةَ بوجودِها، وتجعلهُ واقعاً نعيشُه بقلوبِنا.

همام حسين علي