* وابتغوا إليه الوسيلة *

في تأمل أعماق النص الديني، نجد أنفسنا أمام دعوة روحانية ونفسية عميقة تتلألأ في كلمات آية: “وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ”. هذه العبارة ليست مجرد إرشاد للسعي نحو الله، بل هي نافذة إلى عالم من التعقيدات الإنسانية والروحانية. إن أهمية هذه الآية تكمن في تعددية الطرق والأساليب التي يمكن أن تؤدي بنا إلى لحظة من الوصل مع المطلق، فكل الطرق، أيا كانت، تنفتح على تجارب فريدة تضفي معاني مختلفة على ذات الفرد. الخطوة الأولى في هذا الحث توضح لنا أن الرحلة نحو الله ليست فقط عبر العبادات الصارمة أو الطقوس المعلبة، بل هي أيضاً عبر تدابير عقلانية وعاطفية، فلسفية وصوفية، رقيقة وجريئة. إن العقل هو مُحرّك لعجلة البحث، ولربما ينجح في توضيح الكثير من الغموضات، إلا أن العاطفة هي التي تُعطي الحياة روحها وتُشعِل شغفنا بالفهم. مفهوم العلم والدين، في سياق هذه الآية، يُظهر لنا انسيابية دائمة بين ما هو دنيوي وما هو روحاني. إن تمسّكنا بالسعي نحو المعرفة يمكن أن يُثمر عن توسيع آفاقنا ويُثري تجربتنا الروحية. لكن هنا تظهر أحد التحديات؛ فالكثير من الناس يشعرون بأن العلم والدين هما متنافضان، وكأنهما آليتان لا يمكن أن تتعاملا مع بعضها. لكننا عندما نتأمل أعماق هذا الموضوع، نجد أن كليهما يسعى لبلوغ الحقيقة، وكل منهما يُكمل الآخر. وللعمق في التحليل، لننظر كيف أن المحاور الفلسفية تعدّ سبيلاً مهمًا للاقتراب من الله. فالفلاسفة عبر العصور قد طرحوا تساؤلات وجودية تُثير الدهشة وتستدرج فينا البحث المستمر. ما هي طبيعتنا؟ ما هو معنى وجودنا؟ كيف تتفاعل مشاعرنا وأفكارنا مع العالم من حولنا؟ هذه الأسئلة، رغم تعقيدها، تُعتبر نافذة لسبر أغوار الوجود والشعور، وتدفعنا نحو استكشاف أبعاد الروح. الخطورة تكمن، كما قلنا سابقًا، في انزلاقنا إلى فخّ تقزيم الدين إلى سلوكيات نمطية ومحدودة. إذا استسلمنا لهذا المفهوم الضيق، فإننا بوجه عام سنقف أمام جدار، ونُعيق الإبداع الروحي والتواصل الحقيقي مع الله. علينا بأن نحرر أنفسنا من هذا القيود، ونكتشف أن الإيمان ليس مجرد تسليم أو طاعة، بل هو رخصة لاستكشاف العالم بأسره بعيون جديدة. وكما تطورت المجتمعات وتأثرت باللغات والثقافات، يجب أن تتجدد أيضًا تجاربنا الروحية، وهنا يكمن جمال هذه الرحلة. إن السُبل إلى الله متعددة ومتنوعة، فمن الممكن أن نجد بوصلتنا في زُرقة السماء، أو في وهج الشغف والتجربة، أو حتى في صفاء لحظات الهدوء التي نتحلّى بها في كنف الطبيعة. يصلنا الله عبر مختلف أشكال الوجود، فكل تجربة تحمل بداخلها وعدًا جديدًا وبذورًا للتغيير الداخلي. لذا، يجب علينا أن نتقبل تجاربنا بكافة أبعادها، لا أن نُحجمها، فكل خطوة نحو المعرفة تخلق طاقة جديدة تُضيف بعدًا آخر لقربنا من الله. في نهاية المطاف، نحن مدعوون لنكون أكثر من مجرد طلاب علم أو متدينين مقيدين بحواجز، بل نُفعل وجودنا ونغذي تجاربنا بتنوعها الغني والمعقد. إن كل تجربة نتقبلها، وكل سؤال نطرحه، يقربنا خطوة نحو فهم أعمق لذواتنا والعالم من حولنا. ومن خلال تلك الرحلة، يكتسب الجهد معنى جديدًا، حيث يصبح كدحنا نحو الله رحلة مُفعمة بالمعنى، وينسج وجودنا في خيوط من الجمال والفلسفة، من الحب الإلهي والطموح الأبدي.

همام حسين علي