*في محرابِ الفناءِ: ولادةُ الوعي من رمادِ التلاشي*

يا لها من لحظةٍ تخلبُ الأنفاسَ وتُسلبُ الألبابَ! حينَ تَتَجلّى الحياةُ أمامَ المرءِ كَسرابٍ، وتَتَهاوى أركانُ وجودهِ الواحدةَ تلوَ الأخرى، فلا يملكُ إلا أنْ يرمقَ الفراغَ بعينينِ مُشرعتينِ على العدمِ، غارقتينِ في بحرٍ من اللامبالاةِ الظاهريةِ التي تُخفي ورائها زلازلَ الروحِ. تلكَ هيَ اللحظةُ التي تُخلعُ فيها الروحُ ثيابَ الزيفِ، وتُكشَفُ الحقيقةُ في أبهى صورِها القاسيةِ. تُمضي سنواتُ العمرِ كَأطيافٍ شفّافةٍ، تَتَبخّرُ في ضوءِ فجرٍ كاذبٍ، وتَتَكسّرُ الأحلامُ كَبَلّورٍ رقيقٍ تحتَ وطأةِ قسوةِ القدرِ، لتُصبحَ مجردَ شظايا تُضيءُ دربَ الألمِ. هيَ لحظةُ السكونِ الأعظمِ، حيثُ تتوقّفُ عقاربُ الزمنِ عن الدورانِ في صدرِ الكيانِ، ويُسدَلُ الستارُ على مسرحِ الحياةِ، فلا يُسمعُ إلا أنينُ قلبٍ تائهٍ ضلَّ الطريقَ. كأنّكَ سفينةٌ أبحرتْ طويلًا في بحرِ الأمنياتِ، مُحمّلةً بأغلى الكنوزِ، ثمّ وجدتْ نفسها فجأةً في قلبِ عاصفةٍ هوجاءَ عاتيةٍ، بلا شراعٍ يُوجّهُها ولا دفّةٍ تُقوّمُ مسارَها، تَتَقاذفُها الأمواجُ العاتيةُ نحو هاويةٍ سحيقةٍ لا قرارَ لها، وحيثُ لا منجاةَ ولا ملجأَ. في غمرةِ هذا التلاشي الكبيرِ، لا يعلو صوتٌ فوقَ صوتِ العدمِ المخيفِ، ولا تمتدُّ يدٌ لِتمسكَ بأطرافِ روحٍ مُعلّقةٍ بينَ السماءِ والأرضِ، ولا ترى عينٌ عمقَ الجرحِ الذي ينزفُ صمتًا. وحدَكَ أنتَ والخرابُ، وحيدًا تُتأمّلُ نهايتَكَ قبلَ أنْ تُبدأَ حقيقةً، كأنّكَ شجرةٌ خضراءُ يانعةٌ مُثمرةٌ، تُراقبُ أوراقَها تتساقطُ الواحدةَ تلوَ الأخرى، حتى لا يبقى منها سوى جذعٌ يابسٌ عارٍ، شاهدٌ صامتٌ على حياةٍ كانتْ ومضتْ، كأنّها لم تكنْ أبدًا. تلكَ اللحظةُ يا رفيقَ الروحِ، ليستْ مجردَ لحظةِ ألمٍ عابرٍ يُمضي سريعًا، بل هيَ لحظةُ الوعيِ الأعمقِ بكنهِ العدمِ وجوهرهِ. هيَ اللحظةُ التي تُدركُ فيها أنَّ كلَّ ما ظننتَهُ أساسًا ثابتًا في بناءِ حياتِكَ، لم يكنْ سوى سرابٍ خادعٍ يتلاشى معَ أولِ نسمةٍ من رياحِ القدرِ العاتيةِ. تُدركُ حينَها أنَّ كلَّ ما بنيتَهُ بجهدٍ وعنايةٍ، وكلَّ ما احتضنتَهُ بقلبٍ مُحبٍّ، وكلَّ ما حلّقتْ بهِ روحُكَ في سماءِ الطموحِ، هوَ في جوهرهِ مجردُ قبضةٍ من ترابٍ ناعمٍ تتسربُ من بينِ أصابعِكَ، وتتطايرُ في مهبِّ الريحِ دونَ أثرٍ. هناكَ، في عُمقِ هذا السكونِ المُرعبِ الذي يَلُفُّ الروحَ، وحيثُ تتكسّرُ أوهامُنا الزائفةُ كأمواجٍ عاتيةٍ على صخرةٍ صمّاءَ لا تلينُ، لا يبقى لنا سوى ذواتِنا الجوهريةِ العاريةِ من كلِّ زيفٍ. لا يبقى لنا إلا نبضُ الحياةِ الخفيُّ، ذلكَ الشريانُ الدقيقُ الذي ما زالَ يتحدّى قوانينَ الفناءِ، ويُعلنُ وجودَهُ رغمَ كلِّ مظاهرِ العدمِ. إنّها لحظةُ الصحوةِ الكبرى التي تُزلزلُ الكيانَ، حيثُ نُدركُ أنَّ كلَّ ما يُحيطُ بنا هوَ زائلٌ لا محالةَ، وأنَّ كلَّ ما امتلكناهُ من متاعِ الدنيا هوَ عابرٌ لا يدومُ، وأنَّ الحقيقةَ المطلقةَ الوحيدةَ تكمنُ في أعماقِ أرواحِنا، بعيدةً عن كلِّ زيفٍ. فكأنّما هذهِ اللحظةُ ليستْ لحظةَ سقوطٍ وفشلٍ، بل هيَ لحظةَ تطهيرٍ شاملٍ للروحِ والجسدِ. تطهيرٍ من زيفِ المظاهرِ البراقةِ التي تُعمي البصيرةَ، وتطهيرٍ من قيودِ المادةِ التي تُكبّلُ الروحَ، وتطهيرٍ من وهمِ الأبديةِ الذي يُلقي بظلالهِ على وعينا. إنّها دعوةٌ صريحةٌ لنتعالى فوقَ الألمِ الذي يُنغّصُ الحياةَ، لنتسامى فوقَ الخسارةِ التي تُحطّمُ القلوبَ، ولنُعيدَ تعريفَ وجودِنا من جديدٍ، بعيدًا عن كلِّ ما قد يتهاوى ويندثرُ. ربّما كانَ هذا السقوطُ المدويُّ الذي يُدمي الفؤادَ، هوَ الطريقَ الوحيدَ لِنتسلّقَ قممًا جديدةً من الوعيِ لم نكنْ لِنراها أو لِنحلمَ بها من قبلُ. ربّما كانَ هذا الفراغُ الشاسعُ الذي يُحيطُ بنا من كلِّ جانبٍ، هوَ المساحةَ الرحبةَ التي نحتاجُها لِنبنيَ عالمًا جديدًا خالصًا، عالمًا أساسُهُ الروحُ الساميةُ لا الجسدُ الفاني، والحبُّ الخالصُ لا التملُّكُ الزائفُ، والحكمةُ المُضيئةُ لا الجهلُ المُطبقُ. فيا أيّها الكائنُ البشريُّ الذي يرى عالمَهُ ينهارُ تحتَ قدميهِ، لا تستسلمْ لليأسِ الذي يُطفئُ شعلةَ الأملِ! ففي قلبِ كلِّ دمارٍ، وفي رحمِ كلِّ حطامٍ، يختبئُ وعدٌ بالخلقِ والإبداعِ من جديدٍ. وفي كلِّ نهايةٍ مُفجعةٍ، تكمنُ بذرةُ بدايةٍ جديدةٍ أكثرَ قوةً وعمقًا. انظرْ إلى الفراغِ الذي يُحيطُ بكَ لا كجدارٍ سميكٍ يُعيقُ الرؤيةَ، بلْ كفضاءٍ مفتوحٍ على اللانهايةِ، لِترسمَ فيهِ أحلامًا أكثرَ عمقًا وواقعيةً، ولِتُشعلَ فيهِ شعلةَ حياةٍ أكثرَ إشراقًا وخلودًا. هلْ أنتَ مستعدٌّ لِتقبلَ هذهِ الدعوةَ الصادقةَ لِتُعيدَ الميلادَ من رمادِكَ؟

قتيبة حسين علي