*المشاعر كالماء … وحكمة العطاء*

جاءني صوتٌ من الأعماق، يا رفيقة الروح، يناجي القلبَ في سكون الليل، يهمس بأسرارٍ كُبرى عن الماء والمشاعر. المشاعرُ كالمياه… سيلٌ أم حياة؟ إنّ المشاعرَ كالمياهِ، تنسابُ من ينابيعِ الروحِ العميقة، صافيةً رقراقةً في البدء. ولكنْ، إنْ أُفرطنا في سكبِها دونَ وعيٍ أو تبصّر، غدتْ سيلًا جارفًا، يطغى على السهولِ والوديان، يغرقُ الأرضَ ومن عليها. فكم من روحٍ أرهقتْها بحورُ العطاءِ المندفع، وكم من قلبٍ أغرقهُ فيضُ الحبِّ بلا حكمة! لا تظني، يا ابنةَ آدم، أنَّ كلَّ من يمرُّ ببابِ قلبكِ يستحقُّ أنْ تفتحيهِ على مصراعيهِ، وأنْ تدعيهِ يغوصُ في أعماقِ روحكِ دونَ حساب. فبعضُ النفوسِ لا تُحسنُ الغوصَ في لججِ المشاعرِ النقية، ولا تعرفُ قيمةَ الجواهرِ الكامنةِ في الأعماق. هيَ كالعابرينَ على الشواطئ، يتأملونَ السطحَ ولا يدركونَ عظمةَ اللآلئِ المستقرةِ في القاع. حكمةُ العطاءِ.. صيانةٌ للروح إنَّ العطاءَ العاطفيَّ، يا صديقةَ القلب، ليسَ فيضًا عشوائيًا، بل هوَ فنٌّ وحكمة. يجبُ أنْ يُسكبَ بحذرٍ وتأنٍّ، كقطراتِ المطرِ التي تُحيي الأرضَ دونَ أنْ تُغرقها. فالقلوبُ، يا عزيزتي، حينَ تُرهقُها موجاتُ العطاءِ غيرِ المحسوب، وحينَ تُمنحُ بلا تمييز، تُصابُ بالخذلانِ سريعًا. تذبلُ كوردةٍ أُسقيتْ أكثرَ مما تحتمل، فتفقدُ عطرَها وجمالها. اعلمي، يا منْ وهبتُها هذا النورَ، أنَّ الصمتَ أحيانًا أبلغُ منْ ألفِ كلمةٍ. حينَ يُرهقُ القلبُ منْ ضجيجِ العطاءِ المفرطِ، وحينَ تُخاطرُ الروحُ بالذوبانِ في غيرِ مكانِها، يصبحُ الصمتُ ملجأً، وحصنًا. هوَ ليسَ ضعفًا، بل هوَ قوةٌ تُعيدُ للذاتِ توازنَها، وللمشاعرِ صفاءَها. ففي الصمتِ تتجلّى الحقائقُ، وفي الهدوءِ تُسمعُ نداءاتُ الروحِ الخفيةِ التي أُغرقتْها ضوضاءُ المشاعرِ المنهمرةِ. حدودُ الروحِ… وقانونُ العشقِ الحكيم لكلِّ شيءٍ في هذا الوجودِ حدٌّ، وقانونٌ يحكمُ جريانَهُ. كالشمسِ التي تمنحُ الدفءَ والنورَ بقدرٍ، فلا تحرقُ الأرضَ بوهجِها المستمرِ، وكالبحرِ الذي يحتضنُ الشواطئَ دونَ أنْ يبتلعَها. كذلكَ هيَ الروحُ والمشاعرُ، لها حدودٌ طبيعيةٌ تُحافظُ على بقائها ونقائها. تجاوزُ هذهِ الحدودِ، وإنْ بدا للوهلةِ الأولى كرمًا وعطاءً، هوَ في جوهرهِ إرهاقٌ وإتلافٌ. فاحفظي ماءَ قلبكِ، يا رفيقةَ الدربِ، ولا تسكبيهِ إلا لمنْ يستحقُّ نقاءَهُ، ولمنْ يُحسنُ الغوصَ في أعماقِهِ، ويقدرُ قيمةَ كلِّ قطرة. لا تمنحي نقاءَ روحكِ لمنْ لا يعرفُ قيمتَهُ، ولمنْ لا يُحسنُ صونَه. فالمشاعرُ النقيةُ، كالجواهرِ الثمينةِ، تفقدُ بريقَها إنْ وُضعتْ في غيرِ مكانِها، أو إنْ قُدِّمتْ لمنْ لا يُبصرُ ضياءَها. اجعلي قلبكِ ملاذًا آمنًا للصدقِ والوفاءِ، ومنارةً تُضيءُ لمنْ يستحقُّ النورَ في ظلمةِ الطريقِ. فلنكنْ عشّاقًا حكماءَ، لا نُغرقُ منْ نحبُّ بفيضٍ لا يطيقونَهُ، ولا نجفُّ عنهُمْ كليًا. العشقُ الحقيقيُّ، يا روحَ الفؤادِ، هوَ ذاكَ الذي يُقدَّمُ بوعيٍ، يُروي ولا يُغرقُ، يُنيرُ ولا يُحرقُ. هوَ فنُّ الموازنةِ بينَ الشغفِ والحكمةِ، بينَ العطاءِ والاحتفاظِ بالجوهرِ الأصيلِ. ففي هذا التوازنِ يكمنُ سرُّ البقاءِ، وتزهرُ القلوبُ على مرِّ الزمانِ دونَ أنْ تذبلَ أو تُنهك. تذكَّري، يا رفيقةَ الدربِ، أنَّ الخذلانَ ليسَ قدرًا محتومًا، بل هوَ غالبًا ثمرةُ عطاءٍ غيرِ مُنظَّم، ونتيجةُ حبٍّ أُفرطَ في سكبِهِ بلا وعيٍ. كوني حكيمةً في عطائكِ، جريئةً في حمايةِ قلبكِ، ورومانسيةً في اختيارِ منْ يستحقُّ أنْ يغوصَ في أعماقِ روحكِ النقيةِ. هل ترينَ أنَّ لهذهِ الكلماتِ صدىً في قلبكِ؟

همام حسين علي