الصبر وثمرته

أخرج الامام البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال : مات ابن لابي طلحة ، وابو طلحة خارج فلما رأت امرأته إنه قد مات ، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم اخبره بما كان منهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لعل الله تعالى ان يبارك لكما في ليلتكما، قال : رجل من الانصار فرأيت له تسعة اولاد كلهم قد قرءوا القرآن ” . من اجمل ما يتحلى به المؤمن ، ويمتاز به المسلم من اخلاق وصفات ، الصبر عند نزول المصائب والمحن ، ومقابلته بالتسليم والرضا لا بالسخط والهلع ، فيردد قوله تعالى { انا لله وانا اليه راجعون } ان لله ما اخذ وله ما اعطى على حد ما اشارت اليه الآية الكريمة بقوله تعالى : { وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون } اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون } ولما يعتقده المؤمن من القدوة الصالحة والتأسي الحسن كما كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حال وفاة ولده ابراهيم جعلت عيناه تذرفان الدمع ، فقال له عبد الرحمن بن عوف وانت يا رسول الله فقال : يا بن عوف انها رحمة ، ثم اتبعها باخرى وقال :ان العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول الا ما يرضي ربنا ،وانا لفراقك يا ابراهيم لمحزونون. واليك ايضا ما نورده في شرح هذا الحديث الشريف وما جرى لابي طلحة مع زوجه ام سليم : ( مات ابن لابي طلحة ) زيد بن سهل الانصاري وكان غلاماً صبيحاً وكان ابو طلحة يحبه حباً شديداً فلما مرض حزن عليه حزناً شديداً حتى تضعضع ( وابو طلحة خارج ) عن البيت (فلما رأت امرأته ) ام سليم وهي ام انس بن مالك راوي هذا الحديث ( انه قد مات هيأت شيئاً ) اي اعدت طعاماً واصلحته وهيأت شيئا من حالها وتزينت لزوجها تعرضاً للجماع ، او هيأت امر الصبي بأن ( ونحته ) يعني جعلته ( في جانب البيت فلما جاء ابو طلحة قال : كيف الغلام ؟ قالت : قد هدأت ) اي سكنت ( نفسه )تعني ان نفسه كانت قلقة منزعجة لعارض المرض فسكنت بالموت وظن ابو طلحة ان مرادها انها سكنت بالنوم لوجود العافية ( وارجو ان يكون قد استراح ) تعني من نكد الدنيا وتعبها ( وظن ابو طلحة انها صادقة ) بالنسبة الى ما فهمه من كلامها والا فهي صادقة بالنسبة الى ما ارادت مما هو في نفس الامر . ولذا ورد ان في المعاريض لمندحوة عن الكذب ، وهذا من احسنها ، قال أنس : (فبات ) يعني معها كناية عن جماعها ( فلما اصبح اغتسل ) وفي رواية ثم تصنعت له احسن ما كانت تصنع قبل ذلك فوقع بها . وليس ما صنعته من التنطع المكروه في الدين، وانما فعلته اعانة لزوجها على الرضا والتسليم ، ولو اعلمته بالامر في اول الحال تنكد عليه وقته ولم يباغ الغرض الذي ارادته ( فلما اراد ان يخرج اعلمته انه قد مات وفي رواية عند مسلم فقالت يا ابا طلحة ارأيت لو ان قوماً اعاروا اهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم ان يمنعوهم قال : لا قالت : فاحتسب ابنك فغضب وقال تركتيني حتى تلطخت ثم اخبرتيني بابني (فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره بما كان منها فقال رسولالله صلى الله عليه وسلم لعل الله تعالى ان يبارك لكما في ليلتكما ) وفي رواية فولدت له عبداللهً ( قال رجل من الانصار ) اسمه عبادة بن رفاعة بن رافع ( فرأيت له تسعة اولاد كلهم قد قرءوا القرآن ) اي من ولد ولده عبدالله الذي حملت به ام سليم تلك الليلة من ابي طلحة ، وليس المراد كلهم منهما من غير واسطة . وذكر ابن سعد وغيره من اهل العلم بالانساب من قرأ القرآن وجمل العلم من اولاد عبدالله بن ابي طلحة وهم : إسحاق ، واسماعيل ، ويعقوب ، وعمير ، وعمر ، ومحمد ، وعبدالله ، وزيد ، وقاسم . هذا ما كان من عمل ام سليم التي فجعت بولدها ، وفلذة كبدها ، فاستسلمت الى قضاء الله تعالى وقدره وقابلته بالقبول والرضا والتسليم . بل لم تقف عند هذا الحد من الامر حيث هيأت نفسها واصلحت شأنها وازينت بانواع الزينة المختلفة بما لم تفعله قبلاً واوهمت زوجها ان الغلام قد برئ من سقمه ، وشفي من مرضه حتى قارف تلك الليلة . وما ان اصبح الصباح وعلم ابو طلحة بما كان من ام سليم حتى اسرع اليه الغضب وجعل يعدو يريد ان يشكو زوجه ام سليم الى النبي صلى الله عليه وسلم ،وما كاد يذكر الامر الى سيدنا رسول الله والالم يحز في نفسه ، ويهيج في صدره حتى اقبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم يتمنى له ما لم يتمنه لاحد غيره وهو يقول : ( لعل الله تعالى ان يبارك لكما في ليلتكما ) فحقق الله رجاء نبيه صلى الله عليه وسلم واجاب دعاءه فكان ( له تسعة اولاد كلهم قد قرءوا القرآن ) وحملوا الشريعة المطهرة والعلم النبوي . فلله درام سليم ما اصبرها واجلدها، واتقاها وأروعها . وفيهذا درس عظيم لاولئك النسوة اللاتي يخرجن صارخات مولولات لاطمات لخدودهن ،شاقات لجيوبهن، ضاربات على صدورهن ،ناثرات لشعورهن ، مسودات لوجوههن ، داعيات بدعوى الجاهلية الاولى، فمن قائلة وابناه ، ومن منادية وامصيبتاه، وثالثة تنوح وتقول واكرباه . فليتق الله رجالنا ونساؤنا فيكا يجري في المآتم والجنائز من خروج عن الاداب الشرعية ، والاوامر الالهية . وليعلم الرجال انهم هم المسئولون عن هذه الاعمال الشائنة ، والعادات المزرية ، فاللهم ارنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
من كتاب الدروس الوعظية في الآداب النبوية

الكاتب : لميس الرفاعي