مقالات

لوحة المجاعة السوداء

وهي مجاعة ضربت الجزائر سنة 1867 بسبب سياسة فرنسا المتمثِّلة في الأرض المحروقة ، وما لحق بالفلاحين الجزائريين من قتلٍ وتشريدٍ ومصادرةٍ للأملاك، بهدف القضاء على المقاومات الشعبية. اللوحة موجودة في المتحف الفرنسي Musée des Beaux-Arts de La Rochelle ، للرسام الفرنسي الشهير غوستاف أشيل غيومي ، الذي كان شاهدَ عيانٍ على تلك المجاعة التي قتلت 30.7% من الشعب الجزائري، ممَّا أحدث كارثةً ديموغرافيةً في الجزائر آنذاك، حيث انهار عدد السكان ليصل إلى مليوني نسمة فقط . كانت الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي في غاية الرخاء، وكانت تُصدِّر فائض الحبوب والفواكه إلى فرنسا وإسبانيا والعديد من الدول الأوروبية، كما كانت المُموِّل الرئيسي لأوروبا بالقمح . وبالفعل، أمدَّت الجزائر فرنسا بما تحتاجه من الحبوب، وأنقذتها من المجاعة بمنحها مساعداتٍ غذائيةٍ وقروضًا بلا فوائد، خاصَّةً بعد الثورة الفرنسية، في ظلِّ العزلة التي فُرضت على فرنسا أوروبيًّا بسبب إعلانها مبادئ الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان. ويذكر المؤرخون الفرنسيون أن الأمير عبد القادر الجزائري كان يُعلف خيول جيشه بالقمح والشعير، بينما كان من العسير على الرجل في باريس الحصول على كسرة خبز يوميًّا. بداية المجاعة وأسبابها ظهرت ملامح المجاعة سنة 1866 ، ثم اشتدَّت في 1868 ، ولم تنتهِ فعليًّا إلَّا مع حلول عام 1870 . تسبَّب فيها الجيش الفرنسي بحروبه المتواصلة لإخماد المقاومات الشعبية، وسياسة الأرض المحروقة بإحراق المحاصيل ومصادرة الأراضي. وقد مارس الفرنسيون المتوحشون، الذين ادَّعوا أنَّهم جاؤوا بالحضارة إلى بلداننا، سياسة التدمير والتجويع، بدايةً من المجرم دي بورمون ، مرورًا بـ كلوزيل ، والإرها.بي السفاح الجنرال بيجو ، وغيرهم. واتَّسع نطاقها في عهد الإمبراطور نابليون الثالث، الذي حكم كرئيسٍ للجمهورية ثم إمبراطورًا حتى عام 1870 . شهادات من قلب المأساة الضابط الفرنسي المراسل تارنو: *«إن بلاد بني مناصر رائعة، الأشجار المثمرة من البرتقال والفواكه مُصفَّفة بشكلٍ مذهل ومنظَّم، لقد أحرقنا كل شيء، ودمَّرنا كل شيء… آه من الحرب!!! كم من نساء وأطفال هربوا منا إلى ثلوج الأطلس، فماتوا بردًا وجوعًا (17 أبريل 1842)… إننا ندمِّر، نحرق، ننهب، نخرِّب البيوت، ونحرق الشجر المثمر (5 يونيو 1841)… أنا على رأس جيشي، أحرق الدواوير والأكواخ، ونُفرغ المطامير من الحبوب، ونُرسل لمراكزنا في مليانة القمح والشعير (5 أكتوبر 1842).» الجنرال لاموريسيير : «…في الغد، انحدرت إلى حميدة، كنتُ أحرق كل شيء في طريقي. لقد دمَّرتُ هذه القرية الجميلة… أكداسٌ من الجثث مُلتصقة ببعضها، مات أصحابها متجمِّدين ليلًا… إنَّه شعب بني مناصر، إنهم الذين أحرقتُ قراهم وسُقتهم أمامي (28 فبراير 1843).» النقيب لافاي (LAFAYE): «كان الضبَّاط يُخيِّرون الفلاحين بين أن يُقدِّموا لهم الطعام أو الإبادة. كنَّا نُخيِّم قرب القرية، فيُعطيهم الجنرال مهلةً لإعداد الطعام أو الموت. كنَّا نُوجِّه سلاحنا نحو القرية وننتظر، ثمَّ نراهم يتوجَّهون إلينا ببيضهم الطازج، وخرافهم السمينة، ودجاجاتهم الجميلة، وبعسلهم الحلو جدًّا للمذاق (تلمسان، 17 يوليو 1848).» الإرها.بي مونتانياك : «لقد محا الجنرال لاموريسيير من الوجود خمسةً وعشرين قرية في خرجةٍ واحدة، إنَّه عملٌ أكثر انعدامًا للإنسانية.» الجنرال بيجو: «لا يجب أن ينمو العشب حيثما تدوس أقدام جنود الجيش الفرنسي، حتى يجثو آخر عربيٍّ في الجزائر كالكَلب تحت أقدامنا. سأقتحم جبالكم، سأُحرِق قُراكم ومحاصيلكم، سأقطع أشجار الفاكهة الخاصة بكم، ثم لن ألومكم إلا أنتم، لأنكم لا تُذعنون للجيش الفرنسي العظيم!» المجاعة وأثرها على الجزائريين مع اشتداد المعارك، اختفى وجود الحبوب في الأسواق، ونفقت المواشي، وارتفعت أسعار الحبوب ارتفاعًا فاحشًا. وانتشرت الأوبئة مثل الكوليرا والتيفوس ، وغيرهما من الأمراض الفتاكة. ومع ضياع الأملاك والثروات، صار الجزائريون فقراء معدمين. وفي ظل هذه الظروف، أقبل معظم المتضررين على أكل ما تعافه النفس ويحرِّمه الشرع، مثل أكل القطط والدم والميتة وغير ذلك، لأنهم لم يجدوا ما يأكلونه. وبينما كان الجزائريون يعانون المجاعات والأوبئة، رفضت سلطات الاحتلال تقديم يد العون، واستمرَّت في سياساتها التخريبية. بعدما تفاقمت أزمة نقص الطعام في الأرياف، زحف أهلها إلى المدن جماعاتٍ وأفرادًا، رجالًا ونساءً، وتحولوا إلى هياكل عظمية تمشي على الأرض. حتى إنَّ الجائع كان يعتدي على الفرنسيين، ليس بنيَّة الاعتداء، وإنما ليُساق إلى السجن فيأكل هناك، فيضمن قوته بصفةٍ منتظمة! محاولة الاحتلال استغلال المجاعة حاول المحتلُّ أن يستغلَّ “صرخة الجوع” لتحقيق مشاريعه، عبر حملة تنصيرٍ تولَّا كبرها أحد كبار المجرمين الفرنسيين، وهو الكاردينال لافيجري . فقد اقترنت هذه المجاعة بشخصية هذا الكاردينال الخبيث عديم الرحمة ، الذي وظَّف هذه المجاعات ومآسيها، وأبرزها الأطفال اليتامى الذين حصد الموت آباءهم. ظلَّ لافيجري يجوب الجزائر، حاملًا الصليب في يمينه، والخبز في يساره، يدعو إلى المسيحية . وبعد أن بذل جهودًا جبَّارة في تنصير الأطفال الجياع، فوجئ بأنهم بمجرَّد شفائهم أو حصولهم على القوت، كانوا يفرُّون من المراكز التنصيرية، ويعودون إلى الإسلام! لقد حيَّر هذا الأمر الكاردينال ، فأطلق تصريحه المشهور بلهجةٍ جنونيةٍ هستيرية: «يجب إنقاذ هذا الشعب من الإسلام، ولا يمكن أن يبقى محصورًا في قرآنه! يجب أن تُقدِّم له فرنسا الإنجيل، أو تطرده إلى الصحاري بعيدًا عن العالم المتمدِّن!» وهكذا، تسبَّب الاحتلال الفرنسي في واحدةٍ من أبشع المجاعات التي عرفها التاريخ ، وهي مأساةٌ ستظلُّ شاهدًا على همجية المستعمر، وجرائمه التي لا تسقط بالتقادم.

المصادر :

  1. مجاعة 1867م ومطالب الجزائريين في ستينيات القرن 19 أثناء الاستعمار الفرنسي” تأليف مختاري الطيب

الدكتورة هيام الرفاعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى