لبنان بين نيران الإقليم ولهيب الداخل

في زمنٍ تُحاصر فيه المنطقة بالمواجهات المفتوحة والسيناريوهات المجهولة، يقف لبنان مجددًا على تخوم أزمات متداخلة، تتشابك فيها عوامل الداخل المُنهك بالخسائر، والخارج المليء بالتقلبات. فبين تصعيدٍ إقليمي متسارع تقوده المواجهة بين إسرائيل وإيران، وواقع اقتصادي واجتماعي هشّ يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، يجد الشعب اللبناني نفسه غارقًا في مشاعر تتراوح بين الألم، الترقب، والغضب المكتوم. تصعيد إقليمي… ولبنان على خط النار منذ انخراط “حزب الله” بشكل مباشر في النزاع المتصاعد جنوبًا، تحوّلت بعض مناطق لبنان إلى ساحة حرب مفتوحة. القصف المتبادل، والدمار الذي طال البنية التحتية، والتوتر الأمني المستمر، كلها عوامل أعادت إلى أذهان اللبنانيين مشاهد الحرب المفتوحة، مع فارقٍ وحيد: هذه المرة، لم يكن لهم أي دور في إشعال النار. المخاوف من توسّع رقعة المواجهات تزداد في ظل فشل المبادرات الدولية في احتواء التوتر. فبين صمتٍ رسمي حذر، وقلق شعبي مُتصاعد، تتعالى التساؤلات حول قدرة لبنان، بواقعه الحالي، على تحمّل كلفة حرب جديدة، اقتصادية كانت أم بشرية. الداخل اللبناني: حكومة جديدة في مواجهة المجهول على الصعيد السياسي، شكّلت ولادة الحكومة الجديدة برئاسة نواف سلام، وانتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية، خطوة لافتة بعد فراغ استمر أكثر من عامين. لكن هذه الانفراجة لم تنعكس بشكل فوري على المشهد الداخلي، الذي ما زال يرزح تحت وطأة الانهيار الاقتصادي والشلل المؤسسي. الليرة اللبنانية فقدت أكثر من 90% من قيمتها، فيما تجاوزت معدلات الفقر 80%. ومع انسداد أفق الخدمات العامة، من كهرباء ومياه وتعليم وصحة، يجد المواطن نفسه يوميًا في مواجهة عبثية مع واقعٍ ينهش كرامته وموارده. ورغم الوعود الإصلاحية التي أطلقتها الحكومة، وعودة الدعم الدولي بشروط، لا يزال الشارع اللبناني يراقب بحذر، مُثقلًا بتجارب سابقة لم تثمر سوى مزيد من الانهيار. أحاسيس الناس: تعبٌ عميق وغضب صامت في استطلاعات رأي حديثة، أبدى أكثر من 38% من اللبنانيين رغبتهم في مغادرة البلاد، خاصة من فئة الشباب. هذا النزوح النفسي، قبل أن يكون ماديًا، يعكس حال اليأس المتراكم. لم تعد الأولويات مرتبطة بالطموح أو الإنجاز، بل بالنجاة. ورغم ذلك، يبقى هناك ما يشبه العناد الشعبي في التشبث بالأمل. فبحسب دراسة محلية، ما يزيد على 80% من اللبنانيين ما زالوا يؤمنون بإمكانية تحسّن ظروفهم الشخصية خلال هذا العام، رغم قناعتهم العميقة بأن الدولة ما زالت متأخرة عن تلبية طموحاتهم. بين الواقع والتوقعات: ما الذي ينتظر لبنان؟ أمام هذا المشهد المتشابك، يتوقف مصير لبنان على مجموعة محاور مركزية: 1. تحييد البلاد عن الصراعات الإقليمية، وخاصة عبر التزام فعلي بالقرار 1701 واستراتيجية دفاعية وطنية تُعيد احتكار السلاح بيد الدولة. 2. تنفيذ إصلاحات مالية واقتصادية شاملة، تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، وتفعيل الشراكات مع الجهات الدولية. 3. استعادة الثقة الشعبية، من خلال خطاب سياسي مسؤول، ومحاسبة شفافة، وبيئة قانونية عادلة تُعيد بناء العلاقة بين المواطن والدولة. أملٌ متروك على حافة الانتظار لم يعتد اللبنانيون الاستسلام. لكنهم باتوا يعرفون أن الصبر وحده لا يكفي، وأن الأمل دون فعل لا يُثمر. ما يملكه لبنان اليوم هو فرصة ضيقة، مشروطة بحسن إدارة اللحظة، وتحرير القرار الوطني من قيود الخارج ومنطق الغنيمة. فإما أن يتحوّل هذا البلد إلى قصة نهوض جديدة في عالم عربي يبحث عن أمثلة، أو يستمر في التآكل الذاتي حتى الفناء. وفي الحالتين، يبقى صوت الناس – تعبهم، وجعهم، وغضبهم الصامت – هو البوصلة الحقيقية التي لا يجب أن تُهمل بعد اليوم.

قراءة تحليلية في المشهد الراهن وآفاق المستقبل بقلم: هيام محمد الرفاعي