* سؤال الهداية وإرادة الاختيار *

في عمق النفس الإنسانية، تتناسل الأسئلة الجوهرية التي تبحث عن معنى الوجود، وغالبًا ما تسفر عن تحديات تتعلق بالهداية والضياع. فلفهم هذه الديناميات النفسية المتمحورة حول الهداية، نحتاج إلى خوض تجربة فلسفية صوفية تعكس تعقيد النفس البشرية. إن السلوكيات الإنسانية بحد ذاتها تعد مزيجًا من العواطف والعقل، والحب والمعاناة، والسعادة والشك. تحدث الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}، مما يعكس حقيقة مؤلمة أحيانا: الهداية ليست مسألة حتمية، بل هي خيار يتطلب التفاعل الجاد مع متغيرات الحياة. نحن هنا أمام جدلية القدر والإرادة، حيث يتلاعب الحظ بالناس ويضعهم أمام طرق متعددة من الهداية أو الضياع. عندما نستحضر الفلسفة الصوفية، نجد أنفسنا على حافة كهف النفس، حيث تتجلى الظلمات بأشكال شتى. السالك في طريق المعرفة الروحية يدرك أن الهداية ليست مجرد وصول إلى نقطة معينة، بل هي رحلة مستمرة من الانغماس في الذات واكتشاف الحقائق الأعمق. في كل خطوة نحو النور، تكمن مواجهة فضائيات ظلمة النفس، وهو ما يتطلب نبلاً من الإرادة وحدّة من الإدراك. الصوفية، بعمقها، تدعونا لتجاوز العواطف السطحية والغرائز التي تحكمنا، نحو حالة من التواصل مع الخالق، حيث يصبح الحب هو الدافع الجوّاني. إن هذا الحب ليس حبيسًا في براثن الطمع أو الشهوة، بل هو انخراط بوعي في أحضان الجمال. الحب الصوفي هو حالة من الفناء في الحق، حيث يُدرك السالك أن الفراق والمشاق هما جزء من رحلة الخلافة. هنا، يتداخل الشعور بالحب مع مشاعر الإغتراب والألم. فالفقد، سواء كان افتقاد الخالق أو فقد النفس، يُعتبر إحدى أشكال الجحيم الداخلي الذي يعيشه الإنسان. ومن هذا الجحيم، تنبثق الرغبة في التغيير، وفي السعي نحو الخلاص. إن الهداية، إذًا، ليست هبة نُعطى إياها، بل تحصيل مكتسب يتطلب الشجاعة والرغبة في العمل على الذات. لننظر في المراحل النفسية التي يمر بها الإنسان في سعيه نحو الهداية. فتبدأ من مرحلة الإنكار، حيث يعيش الفرد في فقاعة من الأوهام، غير مكترث بعذابات روحه. ثم تأتي مرحلة الصراع، وهي كفاح يقود الإنسان لاستكشاف المعنى، محاولًا ردم الهوة بين النفس والغاية. عندها، يظهر الندم، وهو شعور يؤكد على استشعار الفرد خطايا الماضي، ويعكس الحاجة الملحة للتوبة والتحول. وبينما يتقدم السالك نحو هذه المراحل، يجد نفسه أمام عواطف متناقضة: حب ورغبة، خوف وقلق، أمل وندم. هنا، يظهر دور الحب كقوة دافعة، فالحب الذي يستمد من عشق الحق يلهم السالك لتجاوز الأزمات، ويعطيه القدرة على تحمل الفقد والفشل. بالنظر إلى هذه الرحلة النفسية، نجد أن الهداية تتجلى في نواحٍ متعددة، من تعميق الفهم الذاتي، إلى تحقيق الاتساق بين الباطن والظاهر. قد يُصاب السالك بلحظات من اليأس والاكتئاب، لكن تلك اللحظات تُعتبر نبض الحياة، تضيء طرقاته بالوعي وتعمق تجربته. الأبعاد الصوفية تنبهنا بأن الهداية ليست هدفًا سهل المنال، بل هي تجربة غامرة تعكس جدل النفس البشرية. ففي النهاية، يجب أن نتقبل أن الجزء من الحكمة يكمن في إدراك طبيعة الألم والتحدي، فهي تمثل المنطلق نحو النور وفتح أبواب الفهم والتحرر. وبهذا، نستطيع أن نتقبل بأن الحياة ليست مجرد سعي نحو الهداية، بل هي استكشاف مستمر لنفسنا ولوجودنا. في هذه الرحلة، تجتمع المشاعر والخيال والفكر، لتخلق لنا تجربة فريدة من نوعها، تظل تنبعث من أعماق قلوبنا، وتقدم لنا الدروس التي تُثري الحياة وتجعل من كل لحظة فرصة للتعمق والإصلاح. وفي هذا العبور من الظلام إلى النور، نجد أن الهداية ليست مجرد هدف، بل هي أسلوب حياة يمزج بين الروح والوعي والسعي المستمر نحو الكمال.

همام حسين علي