*حقق ذاتك تصنع أسطورتك*

في علم الوجود، تبرز الأسئلة، كنجوم ساطعة في سماء التفكير الإنساني، تشرق حين تتلاقى أفكارنا وأحلامنا، لتغدو أسطورة الذات رحلة تأملية في البحث عن المعنى. إنها ليست مجرد جهد فردي محدود، بل هي مغامرة متجذرة في صميم الهوية الإنسانية، حيث تتناغم الذات مع المجموع، وتتشابك الحكايات في نسيج الحياة. وحيث تتراقص الأفكار وتتشابك المشاعر، يظهر سؤال وجودي قديم بقدر عراقة الإنسان نفسه: ما هو معنى “تحقيق الذات”؟ قبل أن نغوص في عمق هذا المفهوم، لنسترجع معًا تموجات الحياة التي نعيشها. نحن، ككائنات عاقلة، نرى في كل يوم ملامح جديدة من ذواتنا، كما لو كنا في مرآة عاكسة تتغير باستمرار، مما يطرح علينا تساؤلات معقدة: من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟ تحقيق الذات، كفكرة فلسفية، ليست مجرد هوية ثابتة أو هدف يجب تحقيقه. بل هي رحلة ممتدة، تمثل عواصف داخلية وتجارب تمتزج مع آمالنا وطموحاتنا وخيباتنا. نجد أنفسنا، في كثير من الأحيان، في سبر أغوار هذا المصطلح الغامض، الذي يربط بين شغف الفرد وحتمية الجماعة. إن مشاعرنا وآلامنا وآمالنا تمثل نهرًا عميقًا يجري في مسارات جديدة، يحاكي في جريانه التحول الدائم الذي يعيشه كل منا. تبدأ هذه الرحلة في لحظات من التفكر، حين نوجه أنظارنا نحو أعماق نفوسنا، لنستكشف كيف تشكل تجاربنا ومشاعرنا هوياتنا، وكيف أن العلاقات التي نبنيها مع الآخرين تلون هذه الهويات بألوان جديدة. فكل تفاعل، كل نظرة، وكل لمسة تترك أثرها، وكأنها فرشاة ترسم تفاصيل لوحة وجودنا. لكن هل نحن حقًا نملك التحكم في تلك اللوحة، أم أنها تتشكل عبر قوى خفية، كالمصادفات والأقدار؟ الفلاسفة منذ عصور قديمة حاولوا فك شيفرة هذا التساؤل. فهناك من يرى أن الذات هي بناء اجتماعي، تستمد معانيها من القيم والتقاليد والموروثات الثقافية. وآخرون يعملون على إظهار أهمية الخبرات الفردية كأدوات تشكل وعينا. وفي خضم هذا التشابك، يتضح أن مفهوم “تحقيق الذات” يتحول إلى مسار يتسم بالتعقيد، حيث يتداخل الشخصي مع الجماعي. فتدور الحوارات في عقول الفلاسفة حول أهمية هذه الرحلة. بعضهم يحاجج بأن الفرد هو نتاج مجتمعه، بينما يذهب آخرون إلى اعتبار أن طابع الفردانية يجب أن يكون هو السائد. فهل نحن بالتالي، ثمارًا لأفكار الآخرين، أم أننا مظهر خالص لذكائنا والشغف الذي يسكن قلوبنا؟ إن هذه التساؤلات تفتح المجال لتفكيك المعايير الرمزية التي تُفرض علينا، وتعطينا فرصة لإعادة تحديد ذواتنا في سياقات جديدة. عندما ننظر إلى الأساطير، نجد نماذج للبطولة تتجلى فيها أحلامنا وطموحاتنا. فالبطل، في أسطورة حياته، لا يكون في الغالب شخصًا يحمل سيفًا ويحارب الوحوش فقط، بل هو أيضًا من يجسد التحديات النفسية، من يقاوم داخله صراعات الوجود. وهنا نجد التشابك بين الأسطورة الذاتية والمجتمع؛ فكل بطل يحتاج إلى أعداء وأصدقاء، وكل تجربة فردية تحتاج إلى علم ودراية بمجريات العالم من حولها. ولنتأمل قليلا في الأسطورة، فهي ليست قصة تُروى، بل هي تجربة تعاش. عندما نعيش لحظات من الفشل، أو الألم، أو الحب، نكتب عن أنفسنا فصولًا جديدة، نضيف بُعدًا جديدًا إلى سرد حكاياتنا، فلا تقتصر البطولة على لحظات الانتصار، بل تشمل مناحي الحياة كافة. كل لحظة، سواء كانت سلبية أو إيجابية، تتفاعل في تجسيد شكلنا المورق. إذا انتقلنا إلى عمق الفلسفة الوجودية، نجد أن فلسفة “سارتر” و”كامو” تسلط الضوء على فكرة العبثية، حيث تركز على عدم وجود معنى محدد للحياة، مما يدفع الإنسان إلى خلق معانيه بنفسه. وهنا ينبثق سؤال آخر: هل سنكون قادرين على خلق معاني حين ندرك عدم وجودها؟ هل يمكن لنا أن نستخدم الحرية الممنوحة لنا كفرصة لإعادة صياغة ذواتنا وأساطيرنا الفردية؟ من هنا، يأتي دور الاستبطان، كوسيلة لكشف الستار عن الأعماق الغامضة داخلنا. نحن مطالبون بالجرأة على مواجهة ذواتنا، على تسليط الضوء على دوافعنا، على رغباتنا، وعلى تلك المخاوف التي تمسك بنا. لن نستطيع أن نتخطى حدودنا، ما لم نخطو نحو داخلنا، نحو تلك الزوايا المظلمة التي نختبئ فيها. وفي سياق مناقشة السفر الداخلي، يظهر مفهوم “الوعي الذاتي” الذي يدعونا لاستكشاف أعماقنا، وبناء وصلات تربطنا بمحيطنا. فنحن نحتاج لصياغة هوياتنا من خلال فهم عميق لعلاقاتنا، بمعايير جديدة تدعو للتواصل والتفاعل. إذ أن الذات الفردية لا يمكن أن تفهم بمعزل عن الذات الجمعية، بل تنمو وتزدهر من خلال تلك التفاعلات المعقدة. وبالتالي، يجب علينا أن نكون واعين للقوى المحيطة بنا، ومدى تأثيرها على رؤيتنا لأنفسنا. حتمًا، فإن “الحرية” ليست مجرد مُطلق يمكننا الوصول إليه، بل هي عملية تدعو إلى التأمل، والتفكيك، وإعادة البناء. لأجل ذلك، نحتاج إلى شجاعة كافية لنقبل بتعقيدات الظل والنور في وجودنا، ونحتفي بالتوتر الذي ينشأ بين الطموح الفردي والمسؤولية الاجتماعية. دعونا نتساءل: هل يمكن لكل واحد منا أن يكون بطلًا ليس فقط في قصته الفردية، بل أيضًا في حكايات المجتمع؟ إن التجارب الجماعية التي نمر بها تحدد خريطة الشخصية، لذا نسعى لبناء عالم يساهم في تعزيز تلك التجارب، حيث نزرع بذور الأمل والمرونة والقوة الرؤيوية. وفي رحلة الاستكشاف هذه، قد نكتشف أننا ليسنا وحيدين، بل ننتمي إلى شبكة معقدة من العلاقات. يُصبح الآخرون مرآة تعكس لنا جوانب من ذواتنا لم نكن لنراها دونهم. قد تمثل تلك العلاقات تحديًا، أو قد تكون نعمة، لكن دونها، تظل الذات في حالة من الضياع، كسمكة في عمق المحيط الواسع، لا تعرف إن كانت تعيش أم تسبح بلا هدف. لذا، إن الأسطورة الذاتية ليست تسلسلًا زمنيًا من الإنجازات، بل هي تفاعل حي ومتجدد، يُعيد بناء نفسه مع مرور الوقت. وعندما نتحدث عن بطولة الفرد، يجب أن نتعرف أيضًا على البطولة الجماعية، والتي تتبلور في اللحظات التي نتعاون فيها، حين نتشارك الأعباء والأفراح، مُدركين أن قوتنا تكمن في وحدتنا. وفي هذا السياق، يبرز الحلم كعنصر أساسي في رحلتنا نحو تحقيق الذات. الأحلام هي بمثابة خريطة توجهنا، تساعدنا على تصور المستقبل وتخيل الاحتمالات، لكنها تحتاج لمجهود حقيقي لننقلها من العالم الافتراضي إلى واقع الحياة اليومية. إن تحويل الحلم إلى واقع يتطلب إيمانًا عميقًا وقدرة على التكيف مع التغيرات، والنضال في مواجهة التحديات. وبما أن الزمن هو موردنا الجوهري، يجب أن ندرك أن كل لحظة تحمل طابعًا خاصًا، فكل نفس نخرجه من صدورنا يشكل جزءًا من رقصة الحياة. لنُقدّر تلك اللحظات، ولنجعل منها أدوات لنستجمع قوافل التجارب المتعددة، فكل تجربة، وكل موقف، وكل شخص نلتقي به في مسيرتنا، هو بمثابة معلم يُدربنا على فنون الوجود. وفي نهاية المطاف، نحن لسنا مجرد أبطال لقصصنا الفردية، بل أيضاً بناة لمؤسسة أدبية وثقافية غنية، حيث يتداخل السرد مع التجربة، وتصبح الأسطورة الذاتية مساحة تعبير مشترك. لذا، دعونا نحتفل بالتعقيد، بالغياب، بالوجود، ولنجعل من أشكال خيالنا بوابات للعبور نحو عوالم جديدة. فكلما سبرنا أغوار أنفسنا وبحثنا بيننا، زادت قدرتنا على كتابة الأسطورة، تلك الحكاية التي تجمع بين كل الأبطال، لتقف كجسر يمتد نحو فهم أعمق للوجود الإنساني.

همام حسين علي