المزيد

فيض الخاطر في عمق الوجود البشري

فيض الخاطر في عمق الوجود البشري

تكمن معاناة الصدق والكذب، ومعركة داخلية تتصارع فيها الحقائق مع الأوهام. وفي هذا السياق يضع دوستويفسكي، في رائعته الاخوة كرامازوف يده على واحدة من اكبر المشاكل للانسانية حين يقول “قبل كل شيء، لا تكذب على نفسك. الرجل الذي يكذب على نفسه ويستمع إلى كذبته يصل إلى نقطة لا يميز فيها أي حقيقة سواء في ذاته أو في أي مكان حوله، وبالتالي يقع في عدم احترام نفسه والآخرين. ومع عدم احترام أي شخص، يتوقف عن الحب، وعندما يفقد الحب، يستسلم للشهوات والملذات الغليظة، ليشغل نفسه ويسليها، وفي رذائله يصل إلى همجية كاملة، وكل ذلك ناتج عن الكذب المستمر على الآخرين وعلى نفسه.”، ولا شك أن هذه الكلمات والنصائح بمثابة منارة موجهة لعقولنا ونفوسنا في عالم مليء بالخداع والتظاهر. فالكذب على النفس ليس مجرد انحراف عن الحقيقة، بل هو جريمة ذاتية تُرتكب بحق الروح، وتجريمٌ للمشاعر الحقيقية التي تشكل جوهر إنسانيتنا.وعندما ينغمس الإنسان في أكاذيبه، يبدأ في بناء عالم مُزيّف يختار فيه محاورته، متجاهلاً بذلك صدى الحقيقة الذي يتردد في أعماقه. هكذا يتجلى الفشل الذاتي، فتُفقد الرؤية الواضحة، ويصبح العالم من حوله بمثابة سراب، تنعدم فيه القدرة على الثقة في النفس أو في الآخرين. إن فقدان الاحترام للنفس يُنتج آثارًا معمقة على العلاقات، فاصطناع الخداع يُنتج مشاعر اللامبالاة، وبديل الحب يصبح العجز، بل الأهم، فقدان القدرة على الاتصال. فأي إنسان يتخلى عن الحب يُغلق أبوابه أمام الروح، ويفقد القدرة على فهم الصفات الإنسانية السامية.لكن في هذا الفراغ الوجودي، يبحث المرء عن وسائل تعويضية، فتظهر الشهوات والمسرات الدنيوية. فيُضحي الإنسان مسيّرًا من قبل غرائزه، مُعطيًا الأولوية للملذات اللحظية على حساب عمق المشاعر والعلاقات القلبية. ومع مرور الوقت، يؤدي هذا إلى انزلاق مُخيف نحو البهيمية، وفي مثل هذا الواقع المُظلم، يتفكك النسيج الأخلاقي ويغيب الإحساس بالوعي.العبور من الكذب إلى الصدق يتطلب شجاعة، رحلة تُرافقها آلام وصدمات، ولكنها ضرورية لنستعيد إنسانيتنا. إن مواجهة الحقيقة، حتى وإن كانت صعبة، هي الطريق نحو التحرر. فلكل نية صادقة أثرها العميق، وللحب الحقيقي القدرة على إعادة بناء ما تم هدمه. فلنستمع إلى صوتنا الداخلي، ولنجعل من الصدق رفيق دربنا، فهو المفتاح لعالم مليء بالحب والاحترام، وعبره ننطلق نحو إنسانية حقيقية، قادرة على الرؤية، الإبداع، والشعور بالجمال رغم آلام الحياة.

قتيبة حسين علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى